الأحد، 7 أبريل 2013

شاكر علي: اليتيم الذي صنع النجاح


في مؤتمر متجاوز الذي أقيم في الخامس من شهر أبريل ٢٠١٣ في مدينة الرياح، شيكاغو، كان هناك حوالي 12 مبدعاً سعودياً حكوا قصص نجاحهم والصعاب التي واجهوها، كان الهدف الرئيسي من المؤتمر نشر ثقافة الإنجاز والتحفيز من خلال إحضار نماذج منا وفينا، طلاب مثلنا ولكنهم تجاوزوا كل شيء، وخطوا خطوات مذهلة في مسيرة الإبداع، لكن قصة شاكر علي غير! كانت بحق الأميز على الإطلاق وبشهادة زملائه المتحدثين أنفسهم.
شاكر علي خرج أمام الناس ليروي لأول مرة قصة شاكر علي وقصة سعوديون في أمريكا، تلك المنظمة الطلابية العملاقة والتي تحتفل بمرور خمس سنوات على تأسيسها، حيث تجاوز مجموع عدد متابعيها على كافة وسائل التواصل الإجتماعي الـ ١٥٠ ألف متابع وعدد زوار موقعها يتجاوز المائة ألف شهرياً.
فاجأنا شاكر علي في بداية كلمته بأنه تقدم لخطبة ٢٥ فتاة وتم رفضه، وكان السبب هو الصاعقة، فهو بإختصار لقيط، لا أب له ولا أم، ولا أخ ولا أخت.
ولد شاكر في مدينة الطائف وتحديداً في هذا الشهر، أبريل، في عام ١٩٨٧م، ونشئ في دار للأيتام، وبعد أن كبر قليلاً كفلته السيدة ناجية عبداللطيف جميل والتي كانت ميسورة الحال وأدخلت شاكر في أغلى مدارس جده، مدارس دار الفكر، والتي كانت تضم أبناء الأمراء والوزارء ورجال الأعمال. يصف هو تلك التجربة بالمريرة، فهو لم يكن ينتمي أبداً لتلك البيئة، ولم يستطيع تكوين صداقات مع تلك الطبقة المخملية، وأحس نفسه دائماً مختلفاً عنهم، بل أقل منهم.
حينما  فجرها شاكر مدويهً للمرة الأولى أمام الجميع، كان في الواقع يقدم أكبر خدمة لنفسه بأن واجهّ أخيراً أكبر همّ أثقل كاهله وأقض مضجعه وحاول مراراً وتكراراً أن يهرب من هذه الحقيقة، كان يعيش قلقًا مستمراً من سؤال قد يطرحه عليه عليه أي شخص، من أهلك؟ وما هي قبيلتك؟ وما هو عمل والدك؟ دائماً ما حاول أن يهرب من الإعلام لأنه يخاف هذا السؤال، ولم يكن يريد أن يُذكّره أحد بهذا الموضوع، ليس فقط لأنه محرج، ولكنه سيعيده لدوامة الآلم التي عاشها، فأحد أهم أسباب ذهابه للبعثة هو هروب من واقع مؤلم عاشه هناك، فقد مورس ضده كل صنوف العنصرية، كان دائما مختلفاً وانطوائي، لم يتقبله أحدٌ لشخصه، إلا صديق واحد لم ينسى شاكر أن يذكره ويشكره أمام الناس. كما لم ينسى أن يشكر أمه التي كفلته وكان لها الفضل بعد الله في وصوله لأمريكا.
في أمريكا هرب شاكر من واقعه، أو هكذا ظن، درس اللغة ولكنه لم يحصل على قبول جامعي، فأوقفت الملحقية الصرف عليه لمدة ٦ أشهر عاش فيها حياة هي أقرب للمشردين.
حينما "هرب" لأمريكا كان يبحث عن نفسه، وأعتبر أمريكا هي نقطة الصفر بالنسبة له، فهو قبلها كان تحت الصفر ولم يكن شيئاً يُذكر، أكمل شاكر علي ٨ سنوات في أمريكا لم يزر المملكة فيها قط، لأنه بإختصار ليس له أحدٌ يزوره هناك، يقول حقدت على المجتمع، كرهته، لم يعامله بإنصاف، ظلمه كثيراً ذلك المجتمع حتى أنه لم يتح له الفرصة أن يكون له أحباب يشتاق لزيارتهم!
نذر شاكر على نفسه أن يساعد الطلاب إن وفقه الله بالحصول على قبول، رغم أنه قبل ذلك لم يكن له نشاطات، فحتى في أمريكا عانى من عنصرية بعض السعوديين الذين لم يتركوا شيئاً فيه لم ينتقدوه، انتقدوه لأصله وشكله، بل حتى نظاراته لم تسلم من نقدهم! ينتقدونه ليتسلوا ولم يعلموا أن هناك قلب يحترق، هناك دموع سكبها ذلك الرجل قهراً على حاله، لا ينسى شاكر أنه مرض في أمريكا ودخل المستشفى وبقي فيها مدة لم يسأل عنه أحد، قتلته تلك الوحدة، كأنه كان يقول لو مت لم يعرف أحد عني شيئاً.
بعد أن وفقه الله بالحصول على قبول أوفى شاكر بنذره وبدأ يساعد الناس عبر المنتديات، ولكنه أحس أنها لا تكفي، لم تشبع طموحه بخدمة الناس، فكانت فكرة سعوديون في أمريكا، أسسها مع زميله في السكن مشعل العنزي عام ٢٠٠٨م، ثم بعدها انضمت لهم غادة الغنيم.
لقد علم أن هناك شح في المعلومات للطلابة الجدد، وصعوبات أكبر في الحصول على قبول، قلبه الكبير رفض أن يستمتع بفرصة رؤية أبناء مجتمعه الذي ظلمه يعانون للحصول على قبول، أو في التقديم على الفيزا، أو حتى لعيش رهبة الغربة، كان هدفه أن يهيئ الطالب حتى قبل سفره بإعطائه المعلومات الأساسية التي يحتاجها.
هل تقبّل المجتمع شاكر علي بعد ذلك؟!
لا، إلا من رحم ربي فقد عانى شاكر من صنوف الشتائم والكلمات المثبطة، تحدثوا عن شكله وشككوا في أصله، لم يشكروه على ما فعل.
مع الوقت تغيرت أمور كثيرة، وزاد الوعي وتطور العمل ودخل لمرحلة أكثر احترافية وأصبح لشاكر علي قاعدة جماهيرية، وإن كان لم يُعدم من أعداء النجاح. وشخصياً أعتقد أن من ينتقدون ويجرّحون ليسوا أكثرية في مجتمعنا، ولكنهم غوغائيون يصدرون ضجيجياً، وفي المقابل ثقافة الشكر لدينا ضعيفة، فلربما دعى لك المستفيد بظهر الغيب ولكنه لا يقولها لك ويسعدك بها، حتى يخيل للشخص أنه منبوذ حينما تصله الانتقادات فقط!

شاكر قالها بصوت عالي وأعلم أنه يعنيها حرفياً: أنتم أيها السعوديون في أمريكا عائلتي التي لم أحصل عليها يومياً، أنا لدي أكبر عائلة أفخر بها، ولعل هذا يفسر شعار سعوديون في أمريكا "بيت الطالب السعودي في الولايات المتحدة" فهو أراد أن يكون هو البيت الكبير بعد أن حُرم أن يعيش في بيت مثل الباقين. يقول أن سعادتي لا توصف حينما تصلني اسئلتكم واستفساراتكم، اعتبرها منكم أسلوب تواصل، كأنكم تسألون عني، وستفتقدونني لو لم أرد عليكم.
حينما حصل على شهادة البكالريوس بكى حتى جف دمعه، بكى لنفسه، أخيراً حصل شاكر على شهادة تساعدة بإذن الله في تخطي الصعاب القادمة، شهادته هي قيمته المادية أمام المجتمع، وهي من ستقيه بإذن الله الحاجه للناس، وهو أعلم الناس بمذلة الحاجة للناس.
لقد عرفت شاكر علي منذ أكثر من عام بعد أن تشرفت بالعمل في سعوديون في أمريكا، ولا أعرف أحداً شخصياً يعمل بإخلاص مثل هذا الرجل، ولا أعرف أحداً أنجز للمبتعثين مثلما أنجز ذلك الرجل، ولا أعرف رجل جمع كل طموح الأرض مثل شاكر علي، ولو تعلمون ما يطرح علينا من مشاريع متتالية يرغب بتنفيذها للطلبة في أمريكا لوقفتم من خلف شاشاتكم لتصفقوا له، وسترى تلك المشاريع النور بإذن الله، وهو في الأخير، وأنا شاهد على ذلك، لا يريد من أحدٍ جزاء ولا شكورا، يريد الأجر من رب العالمين، ولا يطلب أكثر من أن يكف المحبطون عن تجريحه.
ويكفي أن تعلموا فلسفة سعوديون في أمريكا أن لا منافس لها، ولكن الجميع شركاء، ولم تترد يوماً في النشر والترويج لمواقع جديدة تُعنى بالطلبة أو صفحات في الفيسبوك أو حسابات على تويتر.. مادام ذلك يصب في مصلحة الطالب فهذا الهدف والمُنى.

خرجنا بتعاطف جم بعد أن بكى شاكر على المسرح أكثر من مرة، بكى وأبكانا، كنت أخفي دموعي ولكني وبالتفاته بسيطه وجدت الجميع يبكي، وقف المسرح كاملاً يصفق له ٣ مرات خلال كلمته والرابعه حينما خرج، أعتقد أن جميع الحضور شاركوني رغبة معانقته تلك اللحظة، كانت مزيج من التعاطف والإعجاب بكسره لآخر حاجز في حياته "الماضي"، وقد قالها بسعادة لا تخفى رغم أن عيونه كانت قد امتلئت بالدموع، اليوم واجهت الماضي وتحررت من قيده، وكانت هذه آخر عقبة تغلب عليها شاكر بعد أن حصل على الشهادة التي حلم بها، حقق النجاح الذي كان يبحث عنه، وجعل لنفسه قيمة وإسم.
في ٥ أبريل ٢٠١٣ كان الميلاد الحقيقي لشاكر علي بعد أن تحرر من كل القيود التي وضعها المجتمع له.

ختم شاكر كلمته بأن قال: ليس الفتى من قال كان أبي… إن الفتى من قال ها أنا ذا. بعد أن أكمل شاكر كلمته، خرج لنا هاني، شاب من بين الحضور، احتضن شاكر وأمسك المايك وقال أمام الجميع أن مثل حالتك يتيم، وعانى مثلما عانى شاكر من قسوة المجتمع، كأنه كان يحاول أن يرمي هذا الحمل، أن يواجه الناس به تماماً كما فعل شاكر وأرتاحوا جميعاً من إخفاء حقيقة ليس لهم فيها أي ذنب. وأنتم يا من خرجتم للدنيا لا تعرفون لكم أباً ولا أم، واجهوا مجتمعكم بثقة شاكر، ولا تنتظروا كما انتظر هو. المجتمع سيحترم الواثق من نفسه، تخفّيك عن أعين الناس لن يجلب لك إلا الآلم، أخرج لهم وقل ها أنا ذا! أعلم أنها ليست سهله، ولكني أجزم أنها هي ميلادك الحقيقي حينما تتحرر من ذلك القيد الوهمي الذي وضعت نفسك به.

ما تعلمته من تجربة شاكر أن مجتمعنا بتصرفاته العنصرية لا يمت لتعاليم الإسلام بصلة وإن ادعينا ذلك، ولأن مؤتمر متجاوز فكرته نشر ثقافة الوعي والإيجابية فلعلنا نجعل من شاكر أيقونة التغيير لمن هم مثله يعانون اليوم ماعاناه شاكر، لنربي أطفالنا بأن القرآن الكريم ينص على {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}
لنربيهم على تقبل الناس كما هم، لنربيهم أن العنصرية داء يجب استإصاله، لنربيهم على أن يقولوا خيراً او يصمتوا!
كيف سيتم ذلك؟
لا تستهن بنفسك، أنشر قصة شاكر علي، أخبر اصدقائك وأهلك عنها، شاكر غيّر حياة كثير من المبتعثين وساعدهم عبر سعوديون في أمريكا، والآن  لنغير نحن ثقافة المجتمع، لنتوقف عن التجريح والإساءة، لنرتقي ونسمو حتى لو اختلفنا، لننشر ثقافة التسامح التي لدى شاكر علي.
شاكر علي يدرس الآن الماجستير، وبعد كلمته أعلن الأستاذ خالد المطرفي-مدير العربية في السعودية- على منح شاكر دورة تدريبة في المقر الرئيسي للعربية في دبي بعد حصوله على الماجستير بإذن الله.
شاكر علي عمره فقط ٢٦ عاماً، وقدم كل ما يستطيع، فماذا قدمنا نحن؟
شاكر علي قالها سابقاً، سأكون يوما ما وزيراً، وسيكون بإذن الله.

دمتم بخير، وصفاء قلب شاكر علي.

* ليس كل ما ذكر أعلاه قاله شاكر علي في المؤتمر، بعض المعلومات أضفتها من معرفتي الشخصية به.

الثلاثاء، 2 أبريل 2013

سمرقند




بلاد تغنى بها القاصي والداني، هي اليوم أوزبكستان، استعصت على المسلمين ولكن قصة فتحها مختلفة، وفيها من العبر ما فيها.
ففي عهد الخلفية العادل الزاهد عمر بن عبدالعزيز كان قتيبة بن مسلم الباهلي أحد أشهر الفرسان، من ذوي الحزم والدهاء والرأي، وهو من فتح خوارزم وسمرقند وبخارى بالإضافة لبلاد الترك.
أما لماذا سمرقند كانت مختلفة؛ فلإن قتيبة فتحها عام 92هـ دون أن يدعو أهلها للإسلام أو الجزية، ثم يمهلهم ثلاثة أيام كما هي عادة المسلمين، ثم يبدأ القتال، حيث باغتهم وفتحها. ولما أُسقِط بيد أهلها وسيطر المسلمون على مدينتهم، تناهى إلى علم كهنتها أن ما قام به قتيبة مخالف لتعاليم الإسلام، وكمحاولة يائسة لإستعادة بلادهم أرسلوا رسولهم إلى الخليفة عمر بن عبدالعزيز يشتكون، ولم يكونوا يعوّلون على ذلك شيئاً إلّا خشية الندم أنهم لم يطرقوا كل السبل، وإلا من العاقل الذي يتخيل أن خليفة المسلمين سيخرج جيشه منها لأي سبب كان!
وقد ذهب الرسول فعلاً ووجد ذلك الخليفة الزاهد يأخذ طيناً يسد به ثلمة في بيته، وكانت إمرأته من تناوله ذلك الطين وهو مازاد العجب. المهم أن الرجل أوصل الرسالة التي معه من كهنة سمرقند، فقرأها ثم قلبها فكتب على ظهرها "من عبد الله عمر بن عبد العزيز إلى عامله في سمرقند أن انصب قاضياً ينظر فيما ذكروا" ثم ختمها وناولها للرسول.
وقد كان الرسول يحدث نفسه أن يرمي هذه الورقة لولا خشيته أن يكذبه قومه، فكيف لهذا الطريقة أن تخرج ذلك الجيش الجرار الذي سيطر على كامل المدينة. وكان الكنهة لما قرأوا الرد قد أظلمت الدنيا بوجههم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وعلموا أن بصيص الأمل قد زال، لكنهم أخذوها لعامل عمر بن عبدالعزيز على بلادهم، ونصّب لهم القاضي جُمَيْع بن حاضر الباجي لينظر في شكواهم، فاجتمعوا للقاضي وطرحوا شكواهم أن قتيبة لم يدعهم للإسلام أو الجزيه ولم يمهلهم ثلاثاً، ثم سأل القاضي خليفة قتيبة، والذي كان قد توفي رحمه الله، وقال لقد كانت أرضهم خصبة وواسعة فخشي قتيبة إن أذنهم وأمهلهم أن يتحصنوا عليه. وانظر عجيب رد القاضي وما سيترتب على حكمه من أموار كثيرة "لقد خرجنا مجاهدين في سبيل الله وما خرجنا فاتحين للأرض أشراً وبطراً" ثم قضى القاضي بإخراج المسلمين على أن يؤذنهم القائد بعد ذلك وفقاً للمبادئ الإسلامية. نعم إخراج الجيش كاملاً حتى لا يبقى منهم أحد في المدينة، ويعاد فتح المدينة مرة أخرى طبقاً للإجراءات المتبعة، ولم يقبل عذر قائد بحجم قتيبة بن مسلم الباهلي، والذي كان لإسمه صنة ورنه، ولم يقل سأشاور في ذلك خليفة المؤمنين عمر بن عبدالعزيز، ثم انظر لإذعان الجيش وأولهم قيادته لشرع الله، فما غربت شمس ذلك اليوم إلّا والمدينة خالية من جيش المسلمين تماماً. ثم بدأ الجيش الإجراءات المعتادة في الفتوحات الإسلامية فعرضوا عليهم الإسلام أو الجزية أو القتال، لكن أهل سمرقند كانوا قد سُحروا تماماً بهذا الدين العظيم الذي أنصفهم وهم ضعفاء، وحكم لهم وهم غير مسلمون، فدخل أكثرهم الإسلام وفُرضت الجزية على الباقين.
دروس لا تنتهي في هذه القصة، ولكني هنا أركز على سحر العدل وموضعه في نفوس البشر، والعدل يرفع منزلة الحاكم في نفوس أعدائه قبل شعبه، وذلك إذا كان الشرع يُطبق على الجميع وينصف كل مظلوم مسلماً كان أو كافر. ثم إن من العبر أيضاً أن لا استثناءات في النظام والقانون بحسب ظروف الزمان والمكان، فلم يقل القاضي أننا في حالة حرب ويجوز في ذلك مالا يجوز في غيرها، بل إن الإختبار الحقيق للعادلة والإنصاف هي تلك المواضع الصعبة والقرارات المصيرية.
دمتم بخير.