السبت، 28 يوليو 2012

على بابها نُكئت جروحي!

هناك لحظات تضيق بك الدنيا بما رحبت، لم يكن خبر وفاتها صاعقاً لي.. فهي كانت مريضة، وقضت آخر شهرين في المستشفى، معظمها في العناية المركزة. كانت أخبارها تأتيني وأنا هناك.. في أمريكا!
لم أكن أثق بما ينقل لي، ولكني لسبب لا أعلمه كنت أحضر نفسي لذلك الخبر، أبكاني كثيراً التفكير في لحظة تلقي الخبر.. تلقيت الخبر لاحقاً، لم أبكي، أكثرت من الحوقلة، ولكني انفجرت لاحقاً!
شيء في داخلي كان سعيداً لها، فهي العابدة الطاهرة، وهي من أتعبها المرض، وهي من اشتاق للقاء أحبابها الذين سبقوها، سعدت لراحتها، قالت قبل شهرين من وفاتها حينما استيقظت فجأة من النوم تصرخ مقسمةً لمن حولها أنها رأت منزلها في الجنة، فلاتحزنوا!
كل من بكى عليها كان لمرارة فراقها فقط، فهي لم تكن إمرأة عادية أبداً، وما يهون المصاب هو ثقتنا الكبيرة بالله عز وجل أنه لايضيع عمل عامل منا، والأهم أنها كانت تشتاق للقاء بارئها.
رافقتني ذكراها في كل مكان، حتى في أمتع اللحظات كنت أتذكرها لاشعورياً، كنت أتمنى أن يعود الزمن فتعود لقاءتنا الماتعة، وأقص عليها قصصي البطيئة في السرد، فتستبق الأحداث، وتحاول أن تعلم النهاية، فأخبرها بأني سأعيد القصة من الأول إن قاطعتني، فتضحك حتى تدمع عيناها.
لا أعلم إن كنت محظوظاً أم لا حينما توفيت وأنا بعيدٌ عنها، كنت أتمنى أن أودعها، أقبل جبينها واحضنها، ولكني لا أعلم ماذا سيكون حالي لو كنت موجوداً! والحمد لله على كل حال.
عدت في زيارةٍ رمضانية، ولكن جدتي ليست هناك، وأهم طقوسي في زيارتها اليومية إنتهت، كان يشغلني سؤال منذ أن قررنا العودة للمملكة، ماذا سأفعل بعد صلاة التروايح؟! أحزنني عدم إتصالي عليها لأخبرها بأننا وصلنا بالسلامة، وأسمع صوتها المرحب وقد اختلط ببكاء فرح مع كمية غير محدودة من الأدعية.
زرت قبرها بعد تردد، أرشدني موظفوا المقبرة لقبرها، جلست عنده، وضعت يدي عليه وكأني أضعها على جسدها، سلمت عليها، وأخبرتها بحضوري، أخبرتها أن طفلي بدأ يحبو، وأجتمع مؤخراً مع ابناء أحفادها الصغار، لعبوا وفرحوا، أعتذرت منها أني لم أكن هنا لوداعها، أخبرتها أننا سنجتمع في الجنة بإذن الله، وسنعيد الأيام الخوالي. سأزور معك ياحلوتي قصر جدي أبو خالد، وقصر أخيك حسن، ذلك الرجل الذي لم أقابله في حياتي، ولكني مدين له، فهو من كفلك صغيرة بعد وفاة والدك- رحمكم الله جميعاً-، وهو الذي كان حاضراً حينما صعقتك إبنته ببراءة الطفولة بأنك لست ابنةً لحسن، وأنه أبوها هي فقط، حينها تناثرت دموعك وضاقت بك الدنيا بما رحبت، وانت تصرخين بل هو أبي.. إذاً أين هو أبي؟ فضمك حسن بحنان وقال يا هيا أنت أفضل منها، فأنا أبوك وأخوك وصديقك، حينها كفكف دموعك وتركك في وسط ابتسامة كبيرة رُسمت على ثغرك. نعم سنزوره، ونزور والدتك التي أطربتني بقصائدٍ حفظتها منها.. سنزور كل من تحبين، فأنا بكل تأكيد أحبهم لحبي لك.. يا حلوتي لا نعلم ما هي الأقدار، ولكن الدنيا لقاء وفراق، وأنتِ خلدتي ذكركِ.
أتذكرين يا حبيبتي حينما أخبرتك بأني سأغادر للبعثة؟ حينها سبقت دموعي كلماتي، وأنتي أيتها الحنونة تصنعتي الهدوء وابتسمتي، وشحتي ببصرك بعيداً عني لكي لاتزيدي الأسى، قلتِ لي ستمر سريعة بإذن الله، وتعود لنا. إن ما يهون علي حقاً أنك شرّفتي طفلي بإحتضانه، لن أنسى يا غاليتي حينما اتصلتِ علي ولم تمض بضع دقائق على ولادة عبدالله، سمعتي بكاءه فأختنقت حروفك، وبكيتِ فرحاً وكأن هذا بكرك الذي رزقتِ به بعد طول إنتظار.. أي قلب أنتِ، وأي محظوظ أنا.
غادرت قبرها، وحسبت أن أصعب اللحظات مضت، ولكني كنت مخطأ!
كان يجب أن أكسر شيءً في خاطري، وأن أزور بيتها، ملتقانا الدائم، سلكت الطريق الذي أحفظه عن ظهر غيب، سلكته وقلبي ينبض بسرعة، مشاعر مختلطة، ولكن النتيجة الأكيدة أني لن أجدها على الموعد كما هي العادة!
أصعب اللحظات كانت حينما دخلت من الباب، رأيتها وكأنها أمامي، هي بشحمها ولحمها، رأيت ابتسامتها لي، ولهفتها للقاءنا، رأيتها على كرسيها وأنا أدفعها حول النخيل، النخيل التي كانت دائماً تخبرني أنواعها، وأصبحت أعرفها نخلةً نخلة، ولكني كنت دائماً أسئلها عن أنواعها لأنها تفرح بشرح ذلك لي، هناك نخلات تحبها، وآخرى تعتب عليها لرداءة إنتاجها.. رأيتها وقد كانت جميعها مثمرة، تمنيتها في تلك اللحظة لكي تفرح وهي تخبرني بأن إنتاج هذه العام وفير.. مضى أمامي شريط الذكريات سريعاً.. اعتصر قلبي أني لا أجدها، طفل في داخلي كان يدعو الله ببراءة أن يعيدها لو قليلاً حتى نتحدث قليلاً ونضحك كثيراً.
رحم الله جدتي هيا بنت عبدالله النعيم واسكنها فسيح جناته.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.